تاتشات

أيوب والفضول.. ثنائي الابداع والذكرى والوطن

د. فاروق ثابت

كلما أعود لأستمع أغاني أيوب طارش، أو أجد نفسي مصادفة أستمع لأغنية من أغانيه، ألحظ فيها سراً عجيباً، هناك خليط سحري جمع بين الكلمات التي جاءت من تجربة قوية: معاناة، ولغة مستخدمة متمكنة مرتبطة بالوجدان الشعري إلى جانب اللحن الأيوبي الحزين وصوته المتناسق الذي يعطي الأغنية مزاجاً وذوقاً وإحساساً متفرداً.
ولعل أفضل الأغاني التي حازت على هذا الانفراد لدى أيوب هي من كلمات شاعر اليمن “الفضول” عبدالله عبدالوهاب نعمان.
بينما مرت عليّ بالصدفة قبل لحظات أغنية “حبيت يا ناس” أخذتني الذاكرة إلى اليمن، إلى القرية في سن المراهقة وبداية الشباب، حينما كنت أعجب بأي فتاة بمجرد وقوع نظري عليها.
سافرت بي الذاكرة إلى أول مرة استمعت لهذه الأغنية بعزف عود وصوت فنان على الهواء الطلق وهو الفنان الطبيب عدنان الذي أتى لمشاركتنا الفرحة في عرس ابن العم خليل في القرية -شمال تعز- وبالتحديد كانت الجلسة في منزل الجار علي ردمان القباطي.
كان الدكتور عدنان يعزف بإيقاع هادئ في مساء لطيف فيما كان نظري يحدِّق من النافذة للمنازل المجاورة، والمعازيم المقيلين الذين خيم عليهم الصمت في وقت كيف المقيل، كانت النشوة تنداح إلى قلبي وتطير بي إلى إحساس عاطفي لم أعشه من قبل وهو يترنم: “ما احلى حبيبي وسط داري يحوم كان عندي كل ضوء النجوم”.
قيل قديماً “الشعر ما أشعرك” والفن أيضاً، الإبداع المتكامل الذي يخرج اللواعج والذكرى والاشجان، يسترجع فيك الزمان والمكان ويعيّشك اللحظة كأنك فيها للتو، وهذه من ميزات الفن الراقي المتمكن أداءً وكلمات ولحناً كما هو لدى عملاق اليمن أيوب طارش.
مؤخراً برز كثير من الفنانين والمبدعين الشباب يتقنون العزف واللحن أيضا بتميز لكن ما يزال البعض متوقفا عند كلمات عادية جداً أو بسيطة أو مناسباتية لا تتناسب مع كمية الإبداع الذي يمتلكونه رغم الإمكانات المتوفرة لديهم، في حين أن الفن هو وحدة متكاملة يجب أن تتكامل فيه كل عناصر الأغنية، ومنذ القدم اُبْدِع الكثير شعراً وفناً، لكن لم يبق ولم يصلنا إلا ما هو الأجمل، أما العادي والمقبول والسيئ منه فإنه يندثر ولا يبقى.
وللعلم، فإن اليمنيين منذ الماضي السحيق هم أرباب فن وعزف وغناء، وقد وجدت لديهم آلة العود بشكلها الكمثرى -يشبه العود الحالي ذا الثقبين- والصلصال والطبلة منذ الألف الأول قبل الميلاد، وقد وردت منحوتات سبئية تؤكد ذلك، وهذا الأمر مؤكد أن الفن اليمني ليس وليد اللحظة، وإنما هو موغل وُجد مع ميلاد الإنسان القديم على الأرض اليمنية.
اختار الشطر الجنوبي اليمني في وقت من الزمن أنشودة “رددي أيتها الدنيا نشيدي” من كلمات عبدالله عبدالوهاب نعمان وغناء أيوب طارش، كنشيد وطني. وهي الأنشودة التي اختيرت لتكون نشيدا لليمن كاملاً فيما بعد، لو كان التوأم أيوب والفضول أنجزا في حياتهما الأدبية الفنية هذا النشيد فقط، لكفاهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق