تاتشات

عن حسين مقبل.. الشاعر الذي شاخت الريح بين أنامله

فخر العزب

لأنه ابن قرية معلقة في شبابيك الجبل (جبل صبر) فقد قُدِّر له أن يراقب الطبيعة عن كثب، يراقب ويترقب شروق الشمس وغروبها، طلوع وبزوغ القمر، تكون المطر وهطوله وانتقاله بين المزارع موزعاً خيره على الجميع : البروق، الرعود، الرياح، والريح، وهذه الأخيرة – أقصد الريح – كان له معها حكاية طويلة وهو يراقب مسيرتها من الميلاد حتى بلغت أرذل العمر، فانبهرت كلماته وأسرفت بتعابير الدهشة وهي تصف (شيخوخة الريح).
إنه الشاعر الشاب حسين مقبل، الذي خرج من قريته كقمرٍ يطوف عوالم الدنيا، وينسج قصائد الشعر بلغة شعرية بلغت ذروة اكتمالها ونضجها، وبتكثيف شعري بلغ ذروة التماعه، وببناء وتركيب لغوي بلغ ذروة الإحكام والإتقان.
والشاعر وإن كان أسرف في حداثيته في لغة وتركيب النص الشعري وأسلوبه، فإن روح النص – تماماً كقلب قائله – ظلت تعض بنواجذها على قيم الأصالة، تمارس ذلك بفخر وزهو يمتد في نهايات المدى، وأكثر.
فحسين مقبل، شاعر يملك روحاً متحررة من عقد النقص، روحاً ممتلئة بقيم النخوة، تعتز بنفسها وإرثها، وتعتز بجذورها وتراثها، وتعتز وتفاخر بانتمائها إلى هذه الجذور التي ما تغيرت بتغير الحيوات التي عاشتها وهي تتنقل بين قارات وثقافات ولغات الدنيا، ومن وسط برلين يطل “حسين” ليكشف للعالم عن هويته في ديوانه الشعري الثاني له والصادر عن (الآن ناشرون وموزعون) :

“أنا نصف فلاح
ونصف أرض يابسة..
أنا كل التجاعيد المزهرة في وجوه سكان الريف،
ذلك الجفاف الذي يرتدي أيديهم”.

ثم يمتد به الزهو بالانتماء إلى الجذور بالكشف عن أصله القروي الذي يمتاز بالعفوية والبراءة، واعتزازه بذلك حتى بعد أن تشرَّبَ من منابع المعرفة عبر دخوله غير الاختياري إلى أصقاع العالم المتمدن، والذي بقي عاجزاً عن تغيير جوهره كإنسان قروي بسيط، ليسرد كل ذلك في مشهد شعري مكثف من ناحية اللغة والتصاوير، ومن ناحية المشاعر، وهو مشهد يفيض بالشجن والحنين :

“لم أكن أعرف
أن تلك الشجرة التي ترابط أمام منزلنا بتمرد مطلق
ولا تحتاج منا للاهتمام
تعرف بـ (السيسبان)
ولا تلك التي كانت تنمو بدلال
اسمها (قليقلان)
نحن الريفيين لا نفرق بين الأشياء
اصطفانا الليل حراساً له،
واختارنا النهار بلا عناية (للفلاحة)”

على أن بقية نصوص “شيخوخة الريح” تعكس ثقافة هذا الشاب الذي يمتلك بنكاً لغوياً متعدد اللغات والثقافات، جعلت منه شاعراً وفيلسوفاً معرفياً، يعيش الشعر كما الحب وكل تفاصيل الحياة بتمرد ونزق لذيذ وجنون ممتع، ويعتلي قمماً شاهقة من قمم التجارب الشعرية والشعورية، يظهر ذلك جلياً في حداثية النص الشعري الذي يصيغه باحتراف، ولا نعني هنا حداثية الشكل فقط بل حداثية الموضوع والفكرة والرؤية.
كما أن الأنا التي تمزج بين أنا الذات والأنا الآخر وترمز إليها أيضا، حاضرة بقوة في نصوص الشاعر الذي يظل يبحث في جدلية فلسفية عن الذات :

“أمضي
لا أدري إلى أين؟
أجهل وجهتي.. كينونتي
هل أنا راحل إليّ ؟
هذا الذي في الضفة الأخرى يكون أنا؟
قادم نحوي لكي يأتي إليّ”

وكما لو أنها إجابة للتساؤلات الجدلية التي تسكنه، يقدم الشاعر سيرة ذاتية لحيوات كثيرة عاشها, ليأتي أخيرا “بخلاصة روح مجهولة”وهي الروح التي خلقت من حنان الأمهات، وهنا عودة إلى الجذور أيضا، وأصالة منحت هذه الروح صلابتها حين جعلتها “روح صلبة/ مغامرة” “روح عنيدة” “ظلت شامخة” روح متخففة من السنوات/ والتواريخ/ والأمكنة/ والشخوص”، “عارية من متاهات الأبدية” وهي روح متلازمة مع قلب يشاركها في الوصف والصفات.
كما أن الشاعر في نصوصه يعيش جدلاً داخلياً ينعكس بكثرة التساؤلات عن ماهيات عديدة، ليصل إلى التساؤل الأكثر وجعاً :

“هل هناك عبءٌ أكبر من أن تكون كائناً بشرياً؟”

وعلى الرغم من أن معظم النصوص تنتمي إلى ما يعرفه النقاد بقصيدة النثر، أو كما يطلق عليها الدكتور عبدالعزيز المقالح بالقصيدة الأجد، إلا أن بعض المقاطع الشعرية قد التزمت بالتفعيلة والوزن الشعري، وهو ما منحها موسيقى داخلية زادت من جمالية النص، خاصة وأن الغزل هو الغرض الشعري للنص المعنون بـ (مركز الكون) والذي يقول فيه :

“أحبك رغم اكتمال النصاب
ورغم البعاد
ورغم العذاب الذي يعتريني بشوقي إليك”.

ويلاحظ أن الشاعر في معظم نصوص الديوان الذي ضم أربعين نصاً شعرياً، قد لجأ إلى استخدام السارد الداخلي، حيث يتكلم الشاعر بلسانه هو لا سواه، كما أنه في معظم النصوص يخاطب أنثى بدرجة “حبيبة” كانت هي مركز دائرة, محيطها النصوص الشعرية، وقد تجلى ذلك في نص (لأني أحبك) الذي يعد بمثابة بطاقة تعريفية للديوان الشعري وجوهره، وهو النص الذي ارتقى فيه الشاعر إلى ذروة تمكنه كشاعر وكعاشق يخاطب حبيبته في مفارقة بديعة وبليغة :

“لأني أحبك
آفاقي السودُ ضوءٌ
وكل شعاعٍ يقينٌ
أراه بك حقلاً من ياسمين يضيءُ عيوني.”

كما أن الديوان يحوي على ومضات تعد بمثابة خلاصة تجارب غير منتهية في الحياة، وهذه الومضات التي يمكن اعتبارها كلمات خالدة لشاعر وفيلسوف، تكشف مواقف حسين مقبل وآرائه في الكثير من الأشياء التي تثير جدلاً في الحياة، جدلاً بين الناس في مواقفهم منها، وجدلاً في واقع الحياة نتيجة تأثيرها الكبير فيها :

“الاتكاء على الجدران الهشة سببٌ كافٍ للسقوط”
“لا أحب أن يكون رأسي معاراً لقطعةٍ ليست مني”
“لولا الموسيقى
لكانت حياتنا كتلة كبيرة من التفاهات”
“بدون الحب
ينام القلب كمتشردٍ في أي زاويةٍ قد تكون دون حجمه،
يمر كعابر سبيل
غريباً.. بلا وطن”
“التفكير مجازفة فظيعة..
أن تفكر فهذا يعني أنك تخطط للانتحار..”
“ستدرك أن الحياة كلها مسرحية”.

يشار إلى أن “شيخوخة الريح” هو الإصدار الثاني للشاعر حسين مقبل، والذي أصدر ديوانه الشعري الأول في العام 2019 والمعنون بـ “أصافح ظلي” ليمثل بذلك إضافة مهمة لقصيدة النثر والتي تشهد نقلة نوعية من حيث الكم والإبداع في الساحة الثقافية اليمنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق