مانشيتات

المواصلات في اليمن ؛ طرق كوميدية للموت

عبدالحكيم بامخرم

 مدهشة هي الطرق التي قد يموت فيها المرء في اليمن وكوميدية للغاية،وأحياناً تكون مُلحنة ! في ليلةٍ دافئة وأنت عائد من مقيلٍ ما في مذبح ستقرر أن الوقت لا زال مبكرا لركوب دراجة نارية وستستقل باصات “مذبح -الستين-شميلة” ستظن أنك أتخذت قراراً صائباً لا تشوبه أي شائبة .

تقرر الجلوس في الكرسي الأخير كونك ستترجل في الموقف الأخير ولا ترغب بأن يزعجك أي أحد،لكن حين يبدأ الباص بالحركة سيبدأ العد التنازلي لعداد عمرك .

يفتتح السائق الرحلة بأغنية لا تعرف أصلها من فصلها،لا تستطيع تمييز صوت هذا الفنان السيء و “الهبشة”،تحاول مراراً وتكراراً ولا تنجح وتقرر تسميته “شُـخـلبـان”.

يبدأ هذا الفنان الشخلبان جداً بإلقاء قصيدة عتابية قبل أن يغني : “يا عيباه على حبك , بعتني بالرخيص كنت سكران على عينك ؟ ولا شارب حشيش ” ويصرخ الشواترة يا ليلاااااااه،يصرخون كذباً وزوراً وبهتاناً , أمتعض من أدائه المبتذل -لا من القصيدة- وأهرب لعلاقيتي التي كنت أغلقتها للسمرة لكن التوتر أعادني إليها.

يبدأ بالغناء،أغنية عتابية تفطر الروح ويتزامن ذلك مع مرور الباص من حي السنينة ، هذا الحي الغريب الذي لا يعرف أي أحد ما فائدته في الحياة .

هذا الحي المزدحم دائماً والضاج بالبشر -السايرين منهم والراجعين،يسرع الباص وتبدأ المعاناة ؛ يسرع فتشعر بنفس شعورك حين تسافر من قاع جهران،الريح تعصف بك من كل إتجاه ويبدأ الدوار بغزو رأسك ويعود التوتر لك ويصرخ عقلك : فين الشال و تتذكر أنك بدون شال،تتوتر أكثر وتدخل يدك للعلاقية وتسحب ثلاثة عيدان مربربات وبعافيتهن لستعيد عافيتك مؤقتاً .

وحين يحصل ذلك يرفع السائق المسجلة و الفنان يغني أغنية يقلد فيها السيد علي عنبة،يغنيها بطريقة تجعلها كل شيء إلا أغنية،لا ينطق كلمات واضحة،بل صرخات إستغاثة يقول بحرارة : “حب البعيد مححححححنة،ألا يا ناس حب البعيد مححححححححنة ” أشعر بشيء أكبر من التوتر،أبدأ بالقلق ويشعر قلبي بغُمة تجثم عليه،يمشي السائق بسرعة كبيرة من منطقة فج عطان،وتغدو الريح أكثر برودة وأشعر بتنمل في أطرافي،ونفسي يُصبح ثقيلا.

يناور الباص بخفة من بين السيارات وكأنه ممثل في سلسلة “فاست آند فيوريس” وينتشي أكثر ويرفع الصوت أكثر وكأنه مصمم على القضاء على الولي الطيب أنا ! يبدأ “الشخلبان” بأغنية مختلفة،يبدأ بالأغنية القاتلة،الأغنية الأخيرة كما يبدو وحسبنا الله ونعم الوكيل : “أوهموني بالوفاء والخيانة طبعهم ” يتزامن ذلك مع مرورنا من جولة المصباحي؛ “على جنننننب .. على جنننننننننب يلعن أفكارك أنت والفنان هذا” اصرخ بذلك،أترجل بسرعة من الباص وأرمي له حسابه رجماً واركض نحو المستشفى القريب من هذهِ الجولة،بالكاد أصل،أسقط فوق السرير و أنهار كلياً.

تمشي دكتورة الطوارىء التي ترتدي كعباً ببطء نحوي وبغنج وتسألني بصوت دافيء،مالك يا أستاذ سلامات ؟! لا أستطيع الكلام , اتحشرج , اسعل , أقول بصوت متقطع : شخلباااااان – أيش ؟ شخلبااااان يا دكتورة،خنقني شخلبااااان وتنفجر ضحكاً وتركض لنداء زميلاتها ليشاركنها الضحك وفي أثناء ذلك تزيد نوبة السعال والإختناق وتخرجةروحي ببطىء وتعود لبارئها وأغفو في نومي الأبدي وأبدأ الرحلة الأخرى عند منكر ونكير وأكتشف بنفسي اذا ما كان الحنش الأقرع حقيقةً أم لا.

تعود الدكتورة برفقة زميلاتها الآنسات الفاتنات ويكتشفن موتي ويشعرن بالأسى وهن يقلن أشياء مثل ” يوووه مسكين ما تهناش بشبابه”، ثم يقررن بهدوء؛سنكتب في محضر وفاته : حصلت الوفاة بعد أن وجدناه ملقى أمام باب المشفى شبه غائب عن الوعي ويردد كلمة شخلبان وحين تم إسعافه للعناية المركزة كان الأوان قد فات .

ويغلق الملف دون شوشرة.

في مجلس عزائك , سيصبح الأمر أشبه ب ورشةٍ مصغرة للسرد،سرد قصة موتك المشوقة.

ستتعالى كلمة “يوووه” و “يا عيباه” بين فينةٍ وأخرى وسيضيف من ينال شرف سرد قصتم بأن لا يستعجلوا دهشتهم لأن هناك ماهو أكبر وأهم وسيكمل سرد ملحمة موتك،والتكهن بالأسباب الغامضة لوفاتك بطريقة تشويقية،وبنبرة صوت دافئة للغاية .

يا للشاعرية !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق